فصل: القراءات:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.تفسير الآية رقم (12):

قوله تعالى: {قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (12)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما أمرهم سبحانه بالسير، سألهم هل يرون في سيرهم وتطوافهم وجولانهم واعتسافهم شيئًا لغير الله؟ تذكيرًا لهم بما رحمهم به من ذلك في إيجاده لهم أولًا وتيسير منافعه ودفع مضاره ثانيًا، استعطافًا لهم إلى الإقبال عليه والإعراض عن الخضوع لما هو مثلهم أو أقل منهم، وهو ملكه سبحانه وفي قبضته، وتقبيحًا لأن يأكلوا خيره ويعبدوا غيره.
فقال مقررًا لهم على إثبات الصانع والنبوة والمعاد، ومبكتًا بسفههم وشدة جهلهم وعمههم: {قل لمن} ونبه بتقديم المعمول على الاهتمام بالمعبود {ما في السماوات والأرض}.
ولما كانوا في مقام العناد حيث لم يبادروا إلى الإذعان بعد نهوض الأدلة وإزاحة كل علة، أشار إلى ذلك بقوله معرضًا عن انتظار جوابهم توبيخًا لهم بعدم النصفة التي يدعونها: {قل الله} أي الذي له الإحاطة الكاملة قدرة وعلمًا ولا كفوء له، لا لغيره، وهم وإن كانوا معاندين فإنهم لا يمكنهم رد قولك، لاسيما وجواب الإنسان عما سأله إنما يحسن أن يتعاطاه هو بنفسه إذا كان قد بلغ في الظهور إلى حد لا يقدر على إنكاره منكر، وهو هنا كذلك لأن آثار الحدوث والإمكان ظاهرة على صفحات الأكوان، فكان الإقرار بن ضروري، لا خلاف فيه.
ولما كان أكثر ما في هذا الكون منافع مع كونها حسنة لذيذة طيبة شهية، وما كان فيها من مضار فهي محجوبة ممنوعة عنهم، يقل وصولها إليهم إلا بتسببهم فيها، والكل مع ذلك دلائل ظاهرة على وحدانيته وتمام علمه وقدرته، وكان ذلك أهلًا لأن يتعجب منه لعموم هذا الإحسان، مع ما هم عليه من الإثم والعدوان، وتأخير العذاب عنهم مع العناد والطغيان، قال دالًا على أن رحمته سبقت غضبه مستأنفًا: {كتب} أي وعد وعدًا هو كالمكتوب الذي ختم، وأكد غاية التأكيد، أو كتب حيث أراد سبحانه.
ولما كانت النفس يعبر بها عن الذات على ما هي عليه قال: {على نفسه الرحمة} أي فلذلك أكرمكم هذا الإكرام بوجوه الإنعام، وأخر عنكم الانتقام بالاستئصال، ولو شاء هو لسلط عليكم المضار، وجعل عيشكم من غير اللذيذ كالتراب وبعض القاذورات التي يعيش بها بعض الحيوانات.
ولما كان ذلك مطمعًا للظالم البطر، ومعجبًا محيرًا مؤسفًا للمظلوم المنكسر، قال محذرًا مرحبًا مبشرًا ملتفتًا إلى مقام الخطاب لأنه أبلغ وأنص على المقصود دالًا على البعث بما مضى من إثبات أن الأكوان لله، لأن كل ما فيها موصوف بصفات يجوز اتصافه بأضدادها، فاختصاص كل جسم بصفته المعينة إنما يكون بتخصيص الفاعل المختار، فيكون قادرًا على الإعادة، لأن التركيب الأول إنما كان لأن صانعه قادر على جميع الممكنات لكونه عالمًا بجميع المعلومات، والاتصاف بذلك لا يجوز انفكاكه عنه فهو ملك مطاع آمرناه مرسل من يبلغ عنه أوامره ونواهيه لإظهار ثمرة الملك من الثواب والعقاب في يوم الجمع: {ليجمعنكم} أي والله محشورين شيئًا فشيئًا {إلى يوم القيامة} للعدل بين جميع العباد كائنًا {لا ريب فيه} أي بوجه من الوجوه، وذلك الجمع لتخصيص الرحمة في ذلك اليوم بأوليائه والمقت والنقمة بأعدائه بعد أن كان عم بالرحمة الفريقين في يوم الدنيا، وجعل الرحمة أظهر في حق الأعداء، وبهذا الجمع تمت الرحمة من كثير من الخلق، ولولاه ارتفع الضبط وكثر الخبط كما كان في الجاهلية.
ولما كان ذلك كذلك في عدم الريب لإخبار الله به على ألسنة رسله ولما عليه من الأدلة لما في هذا الخلق من بدائع الحكم مع خروج أكثر أفعال الحيوان عن العدل، فصار من المعلوم لكل ذي وعي أن البعث محط الحكمة لإظهار التحلي بالصفات العلى لجميع الخلق: الشقي والسعيد القريب والبعيد، كان كأنه قيل: فما لنا نرى أكثر الناس كافرًا به، فقال جوابًا: {الذين خسروا أنفسهم} أي بإهلاكهم إياها بتكذيبهم به لمخالفة الفطرة الأولى التي تهدي الأخرس، وستر العقل السليم {فهم} أي بسبب خسارتهم لأنفسهم بإهمال العقل وإعمال الحواس والتقيد بالتقليد {لا يؤمنون} فصاروا كمن يلقي نفسه من شاهق ليموت لغرض من الأغراض الفاسدة، لا بسبب خفاء في أمر القيامة ولا لبس بوقع ربنا، وصار المعنى: إن الذين لا يؤمنون في هذا اليوم هم المقضي بخسارتهم في ذلك اليوم. اهـ.

.القراءات والوقوف:

قال النيسابوري:

.القراءات:

{إني أمرت} بفتح ياء المتكلم: أبو جعفر ونافع {إني أخاف} بفتح الياء: هما وابن كثير وأبو عمرو. الباقون: بالسكون. {من يصرف} مبنيًا للفاعل: سهل ويعقوب وحمزة وعلي وخلف وعاصم سوى حفص والمفضل. الباقون: مبنيًا للمفعول {أئنكم} بهمزتين: عاصم وحمزة وعلي وخلف وابن عامر وهشام يدخل بينهما مدة {أينكم} بالياء بعد الهمزة: ابن كثير ونافع غير قالون وسهل ويعقوب غير زيد {آينكم} بالمد والياء: أبو عمرو ويزيد. وقالون {بريء} بغير همز حيث كان: يزيد وحمزة في الوقف {يحشرهم ثم يقول} بياء الغيبة فيهما: يعقوب. الباقون: بالنون {ثم لم تكن} بتاء التأنيث: حمزة وعلي وحماد والمفضل وسهل ويعقوب الباقون: بالياء {فتنتهم} بالرفع: ابن كثير وابن عامر وحفص والمفضل. الباقون: بالنصب {والله ربنا} بالنصب على النداء: حمزة وعلي وخلف والمفضل. الباقون: بالجر على البدل أو البيان.

.الوقوف:

{والأرض} ط {قل لله} ط {الرحمة} ط لأن قوله: {ليجمعنكم} جواب قسم محذوف. وقيل: لا وقف و{ليجمعنكم} جواب معنى القسم في {كتب} وفيه نظر لأن {كتب} وعد ناجز و{ليجمعنكم} وعد منتظر. {لا ريب فيه} ط بناء على أن الذين مبتدأ فيه معنى الشرط {لا يؤمنون} o {والنهار} ط {العليم} o {ولا يطعم} ط {من المشركين} o {عظيم} o {رحمه} ط {المبين} o {إلا هو} ط {قدير} o {عباده} ط {الخبير} o {شهادة} ط {ومن بلغ} ط {أخرى} ط لانتهاء الاستخبار إلى الإخبار. {قل لا أشهد} ج لاتساق الكلام بلا عطف {يشركون} o {أبناءهم} م لئلا يوهم أن ما بعده وصف {لا يؤمنون} o {بآياته} ط {الظالمون} o {يزعمون} o {مشركين} o {يفترون} o. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

اعلم أن المقصود من تقرير هذه الآية تقرير إثبات الصانع، وتقرير المعاد وتقرير النبوّة.
وبيانه أن أحوال العالم العلوي والسفلي يدل على أن جميع هذه الأجسام موصوفة بصفات كان يجوز عليها اتصافها بأضدادها ومقابلاتها، ومتى كان كذلك، فاختصاص كل جزء من الأجزاء الجسمانية بصفته المعينة لابد وأن يكون لأجل أن الصانع الحكيم القادر المختار خصّه بتلك الصفة المعينة، فهذا يدل على أن العالم مع كل ما فيه مملوك لله تعالى.
وإذا ثبت هذا، ثبت كونه قادرًا على الاعادة والحشر والنشر، لأن التركيب الأول إنما حصل لكونه تعالى قادرًا على كل الممكنات، عالمًا بكل المعلومات، وهذه القدرة والعلم يمتنع زوالهما، فوجب صحة الاعادة ثانيًا.
وأيضًا ثبت أنه تعالى ملك مطاع، والملك المطاع من له الأمر والنهي على عبيده، ولابد من مبلغ، وذلك يدل على أن بعثة الأنبياء والرسل من الله تعالى إلى الخلق غير ممتنع.
فثبت أن هذه الآية وافية بإثبات هذه المطالب الثلاثة.
ولما سبق ذكر هذه المسائل الثلاثة، ذكر الله بعدها هذه الآية لتكون مقررة لمجموع تلك المطالب من الوجه الذي شرحناه والله أعلم. اهـ.
قال الفخر:
قوله تعالى: {قُل لّمَن مَّا في السموات والأرض} سؤال.
وقوله: {قُل لِلَّهِ} جواب فقد أمره الله تعالى بالسؤال أولًا ثم بالجواب ثانيًا.
وهذا، إنما يحسن في الموضع الذي يكون الجواب قد بلغ في الظهور إلى حيث لا يقدر على إنكاره منكر، ولا يقدر على دفعه دافع.
ولما بينا أن آثار الحدوث والإمكان ظاهرة في ذوات جميع الأجسام وفي جميع صفاتها، لا جرم كان الاعتراف بأنها بأسرها ملك لله تعالى وملك له ومحل تصرفه وقدرته لا جرم أمره بالسؤال أولًا ثم بالجواب ثانيًا، ليدل ذلك على أن الاقرار بهذا المعنى مما لا سبيل إلى دفعه ألبتة.
وأيضًا فالقوم كانوا معترفين بأن كل العالم ملك لله، وملكه وتحت تصرفه وقهره وقدرته بهذا المعنى كما قال: {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السموات والأرض لَيَقُولُنَّ الله} [لقمان: 25] ثم إنه تعالى لما بيّن بهذا الطريق كممال إلهيته وقدرته ونفاذ تصرفه في عالم المخلوقات بالكلية، أردفه بكمال رحمته وإحسانه إلى الخلق فقال: {كَتَبَ على نَفْسِهِ الرحمة} فكأنه تعالى قال: إنه لم يرض من نفسه بأن لا ينعم ولا بأن يعد بالإنعام، بل أبدًا ينعم وأبدًا يعد في المستقبل بالإنعام ومع ذلك فقد كتب على نفسه ذلك وأوجبه إيجاب الفضل والكرم.
واختلفوا في المراد بهذه الرحمة فقال بعضهم: تلك الرحمة هي أنه تعالى يمهلهم مدة عمرهم ويرفع عنهم عذاب الاستئصال ولا يعاجلهم بالعقوبة في الدنيا.
وقيل إن المراد أنه كتب على نفسه الرحمة لمن ترك التكذيب بالرسل وتاب وأناب وصدقهم وقبل شريعتهم.
واعلم أنه جاءت الأخبار الكثيرة في سعة رحمة الله تعالى، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لما فرغ الله من الخلق كتب كتابًا أن رحمتي سبقت غضبي».
فإن قيل: الرحمة هي إرادة الخير، والغضب هو إرادة الانتقام، وظاهر هذا الخبر يقتضي كون إحدى الإرادتين سابقة على الأخرى، والمسبوق بالغير محدث، فهذا يقتضي كون إرادة الله تعالى محدثة.
قلنا: المراد بهذا السبق سبق الكثرة لا سبق الزمان.
وعن سلمان أنه تعالى لما خلق السماء والأرض خلق مائة رحمة، كل رحمة ملء ما بين السماء والأرض، فعنده تسع وتسعون رحمة، وقسم رحمة واحدة بين الخلائق، فبها يتعاطفون ويتراحمون، فإذا كان آخر الأمر قصرها على المتقين. اهـ.

.قال الماوردي:

قوله تعالى: {كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} أي أوجبها ربكم على نفسه، وفيها أربعة أوجه:
أحدها: أنها تعريض خلقه لما أمرهم به من عبادته التي تفضي بهم إلى جنته.
والثاني: ما أراهم من الآيات الدالة على وجوب طاعته.
والثالث: إمهالهم عن معالجة العذاب واستئصالهم بالانتقام.
والرابع: قبوله توبة العاصي والعفو عن عقوبته. اهـ.

.قال ابن عطية:

قال بعض أهل التأويل: في الكلام حذف تقديره: {قل لمن ما في السماوات والأرض}؟ فإذا تحيروا ولم يجيبوا، قل لله، وقالت فرقة: المعنى أنه أمر بهذا السؤال فكأنهم لما لم يجيبوا ولا تيقنوا سألوا فقيل له: قل لله، والصحيح أن الله عز وجل أمر محمدًا عليه السلام بقطعهم بهذه الحجة الساطعة والبرهان القطعي الذي لا مدافعة فيه عندهم ولا عند أحد، ليعتقد هذا المعتقد الذي بينه وبينهم ثم يتركب احتجاجه عليه، جاء ذلك بلفظ استفهام وتقرير في قوله: {لمن ما في السماوات والأرض} والوجه في الحجة، كما تقول لمن تريد غلبته بآية تحتج بها عليه، كيف قال الله في كذا؟ ثم تسبقه أنت إلى الآية فتنصها عليه، فكأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم: يا أيها الكافرون العادلون بربهم {لمن ما في السماوات والأرض}؟ ثم سبقهم فقال: {لله}، أي لا مدافعة في هذا عندكم ولا عند أحد، ثم ابتدأ يخبر عنه تعالى: {كتب على نفسه الرحمة} معناه قضاها وأنفذها. وفي هذا المعنى أحاديث عن النبي عليه السلام تتمضن كتب الرحمة، ومعلوم من غير ما موضع من الشريعة أن ذلك للمؤمنين في الآخرة ولجميع الناس في الدنيا، منها أن الله تعالى خلق مائة رحمه فوضع منها واحدة في الأرض فيها تتعاطف البهائم وترفع الفرس رجلها لئلا تطأ ولدها. وبها تتعاطف الطير والحيتان، وعنده تسع وتسعون رحمة، فإذا كان يوم القيامة صير تلك الرحمة مع التسعة والتسعين وبثها في عباده.
قال القاضي أبو محمد: فما أشقى من لم تسعه هذه الرحمات تغمدنا الله بفضل منه، ومنها حديث آخر أن الله عز وجل كتب عنده كتابًا فهو عنده فوق العرش أن رحمتي سبقت غضبي، ويروى: نالت غضبي، ومعناه سبقت، وأنشد عليه ثابت بن قاسم:
أَبَني كُلَيْبٍ إنَّ عَمَّيَّ اللَّذَا ** نالا الملوك وفكَّكا الأغلالا

ويتضمن هذا الإخبار عن الله تعالى بأنه كتب الرحمة تأنيس الكفار ونفي يأسهم من رحمة الله إذا تابوا، وأن باب توبتهم مفتوح، قال الزجاج: {الرحمة} هنا إمهال الكفار وتعميرهم ليتوبوا. اهـ.

.قال الخازن:

قوله عز وجل: {قل لمن ما في السموات والأرض قل لله} هذا سؤال وجواب المعنى قل يا محمد لهؤلاء المكذبين العادلين بربهم لمن ملك ما في السموات والأرض فإن أجابوك وإلا فأخبرهم أن ذلك لله الذي قهر كل شيء وملك كل شيء واستعبد كل شيء لا للأصنام التي تعبدونها أنتم فإنها موات لا تملك شيئًا ولا تملك لنفسها ضرًا ولا نفعًا وإنما أمره بالجواب عقب السؤال ليكون أبلغ في التأكيد وآكد في الحجة ولما بين الله تعالى كمال قدرته وتصرفه في سائر مخلوقاته أردفه بكمال رحمته وإحسانه إليهم فقال تعالى: {كتب على نفسه الرحمة} يعني أنه تعالى أوجب وقضى على نفسه الرحمة وهذا استعطاف منه للمتولين عنه الإقبال عليه وإخبار بأنه رحيم بعباده وأنه لا يعجل بالعقوبة بل يقبل التوبة والإنابة ممن تاب وأناب.
(ق) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لما خلق الله الخلق كتب في كتابه فهو عنده فوق العرش إن رحمتي تغلب غضبي».
وفي البخاري: «أن الله كتب كتابًا قبل أن يخلق الخلق إن رحمتي سبقت غضبي فهو مكتوب عنده فوق العرش».